فصل: مسألة ما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة ما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه:

حكاية عن عمر بن عبد العزيز فيما يتشرف به الرجل من مناقب سلفه وسمعت مالكاً يذكر: أن عمر بن عبد العزيز قام إليه رجلٌ فذكر مناقب أبيه، فقال: شهد بدراً والعقبة وما أشبه ذلك، ثم قام إليه رجل آخر من أهل الشام، فقال: إن أباه شهد الزاوية، وكان مع الحجاج بن يوسف، فقال عمر: كم من شيء يفرح به صاحبه، وهو عليه وَبالٌ يوم القيامة، ثم قال عمر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا

قال محمد بن رشد: هذا كما قال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إن الرجل إنما يتشرف بمناقب أبيه على الحقيقة، ويجب أن يفرح بها إذا كانت مما يُقربه إلى الله تعالى؛ لأنه يرجو أن يلحقه الله بدرجته لِتقر به عينه، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21]، وبالله التوفيق.

.مسألة تحفظ الرجل بدينه:

في تحفظ الرجل بدينه وسمعته يذكر: أن رجلاً من الحكماء قال: ما كنتَ لاعباً لابد أن تلعب به، فلا تلعب بدينك.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يسامح أحداً في شيء من دينه إن لم يكن عليه في مسامحته فيه إثم، وإن سامحه في ماله أو فيما هو... وذلك أن يصبح الرجل صائماً متطوعاً فيريده رجل من الفقراء في صنيع يصنعه، فقد قال مطرف: إنه إن حلف عليه بالطلاق والعتق ليفطرن فأعنته، ولا يفطر وإن حلف هو فليكفر، ولا يفطر، وإن عزم عليه أبواه أو أحدهما في الفطر فليطعهما وإن لم يحلفا عليه، إذا كان ذلك رِقَّةً منهما عليه لاستدامة صومه. وقد مضى الكلام على هذه المسألة في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم من كتاب الصيام. وبالله التوفيق.

.مسألة الارتزاق من الصدقات:

في الارتزاق من الصدقات قال مالك: كان أرزاق عمال المدينة من الصدقات، وكان أبو بكر بن محمد يذكر إنما هي غفلة، وفرض له رزقه سبعة وثمانين ديناراً وثلث دينار من فَدَك.
قال محمد بن رشد: قوله: كان أرزاق عمال أهل المدينة من الصدقات، معناه، والله أعلم: أن الأموال من الصدقات وغيرها كانت مختلطة. فإذا ارتّزق منها وهي مختلطة كان بعض رزقه من الصدقات إذا لم يخرج في غيرها من وجوه الصدقة عوض ما أعطي منها، واستجازة ذلك غفلة؛ كما قال أبو بكر بن محمد، إذ لا يتحقق السلامة من ذلك، ويحتمل أن يكون إنما كانوا يرزقون من الصدقات، وبتأويل أنهم كانوا أمهر عمالًا ينظرون في جميع الأمور من الصدقات وغيرها، وأما لو لم يكن لهم نظر عليها ولا عمل فيها لما جاز أن يرزقوا منها؛ لأن الصدقات إِنما هي لمن فرضها الله لهم في كتابه بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، لا يجوز أن يخرج عنهم إلى غيرهم. والأمراء والكتَّاب والعُمال وجُباة الأموال إنما يُرزقون من بيت المال. وبالله التوفيق.

.مسألة كراهية طول الكمين:

في كراهية طول الكمين قال ابن القاسم: بلغني أن عمر بن الخطاب قطع كُم رجل إلى قدر أصابعه بشفرة، ثم أعطاه فضل ذلك، وقال له: خذ هذا فاجعله في حاجتك.
قال الإِمام القاضي: إنما فعل عمر بن الخطاب هذا؛ لأنه رأى أن الزيِادة في طول الكمين على قدر الأصابع مما لا يحتاج إليه، فرآه من السرَف، وخشي أن يدخل عليه منه عجب، وفي مثل هذا قالت عائشة: ما أخَافُ عَلَى الرًجُل إلاَّ مِنْ أَطْرَافِهِ؛ إذْ مَر عليها سعدُ بن معاذ وَعَلَيْهِ دِرْع مقلصة مشمرة الكمين، على ما مضى في أول السماع. وقد تكلمنا على ذلك هنالك. والله الموفق.

.مسألة ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شظف العيش:

فيما كان عليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شظف العيش وحدثني ابن القاسم عن مالك عن عمر بن الخطاب، قال وهو بمكة: لقد رأتني وما لِيَ من طعام غير أن خالاتٍ لي كنَّ يحفنَّ حفنة حفنة من زبيب.
قال محمد بن رشد: هذا من معنى ما تقدم القول فيه قبل هذا، فلا معنى لِإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة طول الرداء:

في كراهية طول الرداء قال مالك: بلغني أن عاملًا لعمر بن عبد العزيز على اليمن، وأنه ارتدى ببُردة، وكانت طويلة فانجرت من خلفه، فقيل له: ارفع ارفع، فرفع فانجرت بين يديه. قال: هكذا الشيء يجعل بغير قدره.
قال محمد بن رشد: إنما قيل له: ارفع؛ لما انجرت خلفه، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلى مَنْ جَرَّ إزَارَه بَطَراً»، فطول الرداء مكروه، مخافة أن يغفل عنه فيجره من خلفه. وقد جاء النهي عن ذلك لمن فعله بَطراً، فالتوقي من ذلك على كل حال من الأمر الذي ينبغي. وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير وَقُدُورٍ راسِيَاتٍ:

في تفسير: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]:
وسئل مالك: عن تفسير: {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، قال: لا تحمل ولا تحرك. بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]، قال مالك: يريد أثبتها. وسئل مالك: عن تفسير: {كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13]، قال: كالجوبة من الأرض فيما أرى.
قال محمد بن رشد: تفسير مالك للقدورِ الَرّاسِيَاتِ التي لا تحمل ولا تحرك بدليل قوله: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] أثبتها تفسير صحيح نحو تفسير السدي؛ لأنه قال فيِ: {رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]: معناه ثابتات في الأرض، عظام تنقر من الجبال بأثافيها، فلا تحول عن أماكنها. وقال مجاهد في تفسير قوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ: 13] معناه: وصحاف كالحياض، وهو نحو تفسير مالك في هذه الرواية، وقوله عز وجل في أول الآية: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]، يعملون له ما يشاء من مساجد. وقيل: من مساجد وقصور.
وقوله: {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] يُرِيدُ تصاوير من نحاس ولم تكن الصور يومئذ. وروي: أن سليمان أمر الشيطان ببناء بيت المقدس، فقالوا له: زوبعة الشيطان وله عين في جزيرة في البحر يردها كل سبعة أيام، فأتوها فنزحوها، ثم صبوا فيها خمراً فجاء لورده، فلما أبصر الخمر قال في كلام له: ما عليك، إنك إذا شربك صاحبك تظهرين عليه عذره في أساجيع له لا أذوقك اليوم، فذهب ثم رجع لظمأٍ آخر، فلما رآها قال كما قال أول مرة ثم ذهب ولم يشرب حتى جاء لظمأٍ لإِحدى وعشرين ليلة، فقال: ما علمت أنك لتذهبن الهم في سجع له، فشرب منها فسكر، فجاءوا إليه فأروهُ خاتم شجرة فانطلق معهم إلى سليمان، فأمرهم بالبناء، فقال زوبعة: دلوني على بيض الهدهد، فدل على عشه، فأكب عليه جمجمته، يعني زجاجة، فجاء الهدهد فجعل لا يصل إليها، فانطلقت، فجاء بالماس الذي يثقب به الياقوت، فوضعه عليه فقط الزجاجة نصفين، ثم ذهب ليأخذه، فأزعج بالماس إلى سليمان، فجعلوا يستعرضون الجبال، كأنما يخطون في نواحيها في نواحي الجبال في الطين، قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، أيَ: توحيداً. وقال بعضهم: لما نزلت لم يزل إنسان منهم قائماً يصلي. قال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] أي: أقل الناس المؤمن.

.مسألة رقية البثرة الصَّغيرة مخافة أن تعظم:

في رقية البثرة الصَّغيرة مخافة أن تعظم قال مالك: بلغني أن عائشة كانت ترى البثرة الصغيرة في بدنها فتلح عليها بتعويذ، فيقال لها: إنها صغيرة، فتقول: إن اللَّه يعظم ما يشاء من صغير، ويصغر ما يشاء من كبير.
قال محمد بن رشد: فعل عائشة هذا مطابق لما تواترت به الآثار عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. من ذَلِكَ «حَدِيثْ عُثْمَان ابْنِ أبي الْعَاص أنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبِهِ وَجَعٌ قَدْ كَادَ أَن يُهْلِكَهُ، فَقَالَ لَه رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْسَحْهُ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مًرّاتٍ، وَقُلْ: أَعُوذُ بِعَزّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِه مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ. قَالَ: فَقُلْتُ ذلك، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزلْ آمُرُ بها أهلي وغيرهم». وحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كَانَ إذَا اشْتَكَى يقْرأُ بِالْمُعَوِّذَاتِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَتْ: فَلًمّا اشْتَدَ وَجَعُهُ كُنْت أَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَلَيهِ بِيَمِينِه، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا».
ولا يكون التعويذ والرقية في المرض، إلا بكتاب الله على ما جاء في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. واختلف في رقية أهل الكتاب، فأجاز ذلك الشافعي إذا كانت بكتاب الله؛ لحديث يحيى بن سعيد عن عمر عن عائشة: أن أبا بكر الصديق دخل عليها يوماً وهي تشتكىِ، ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: ارقيها بكتاب الله. وكره ذلك مالك؛ إذ لا يدري أَهَلْ ترقى بكتاب الله أو بغير ذلك مما يضاهي السحر؟ وقوله من طريق النظر أظهر، والله أعلم.
وقد مضى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة- القول في تعليق التمائم على المريض وعلى الصحيح؛ مخافة المرض مستوفى، فلا وجه لإعادته، والله أعلم.

.مسألة في صفة نعل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ:

وسئل مالك: عن نعل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ التي رآها كيف حدُّوها؟ قال: رأيتها إلى التدوير ما هي وتخصيرها في مؤخرها وهي مخصرة ومعقبة من خلفها، قلت: كان لها زمامان. قال: ذلك الذي أظن، قال: وكانت عند آل ربيعة المخزوميين من قبل أم كلثوم أمهم.
وسمعت مالكاً يذكر: أن عند آل عمر بن الخطاب فراش من شعر وجرس، وكان ذلك الفراش لحفصة، قلت له: ما قصة الجرس؟ قال: لا أدري إلا أنه بلغني كذلك.
قال محمد بن رشد: ليس في هذه الحكاية ما يشكل، فتكلم عليه حامي الحرمين الذي سئل عن قصته، فقال: لا أدري والأجراس كانت تعلق في أعناق الِإبل لتعرف مواضعها بأصواتها إن شدت أو ضلَت.
وتأول مالك: أنهم إنما كانوا يعلقونها عليها من أجل العين، وبوَّب على ذلك في موطئه باب في نزع المعاليق والجرس، وأدخل عليه ما حدَّثه عبدُ اللَّه بن أبي بَكْر عن عبَّاد بن تميم «أن أَبَا بَشيرِ الأنصارِي أَخبرَهُ: أَنه كَانَ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض غَزَواته، قَالَ: فَأَرْسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولاً، قَالَ عبدُ اللَّهِ بنُ أَبي بَكرِ: حسبت أَنَّهُ قَالَ، وَالنَّاسُ في مَقِيلِهِم: لَا يَبْقَيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلاَدةٌ مِنْ وَتَرِ أَو قِلاَدةُ إلَّا قُطِعَتْ».
فرأَى مالك الأجراس دَاخلة في عموم ما أَمر النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بقطعه من أعناق الِإبل، وتأول أن ذلك إنما كانوا يفعلونه من أجل العين، وتابعه على تأويله جماعة من أهل العلم، فلم يجيزوا أَن يعلق على الصحيح من بني آدم ولا من البهائم شيء من العلائق خوف نزول العين.
وقد مضى الكلام مستوفى على هذا المعنى في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة. ومعنى السؤال في هذه الحكاية عن قصة الجرس، إنما هو لِمَ كانوا يحبسونه ويرفعونه، وقد جاء النهي في استعماله فلم يجبه على سؤاله. والجواب فيه أن استعماله وإن كان لا يجوز ففي حبسه منفعة، وهو أنه يذكر به العهد القديم، ويتراحم من أجله على من قد مات من السلف الكريم. والله أعلم.

.مسألة مناقب مصعب بن عمير:

خبر في منقبة مصعب بن عمير قال مالك: إن مصعب بن عمير كانت عليه جبة من صوف مرقوعة بفروة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى المدينة يدعو الناس إلى الِإسلام، ويعلمهم القرآن وأنه حين قتل كانت تّلك الجبة عليه.
قال محمد بن رشد: مصعب هذا القرشي العبدري من بني عبد الدار بن قصي كان من جلة الصحابة وفضلائهم، بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، كان يُدعى القارئ. وقيل: إنه أول من دخل المدينة من المهاجرين، وأول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة، ثم قدم بعده المدينة عمرو بن أم كلثوم، ثم عمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود، وبلال، ثم أَتى عمر ابن الخطاب في عشرين راكباً، ثم هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدم المدينة، وكان مصعب بنُ عمير هذا فتَى مكة شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكره فيقول: «مَا رَأَيْت بِمًكّةَ أَحْسَنَ لِمَّةً وَلَا أَرَقَّ حُلّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِن مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْر،» فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إلَى الإسْلَام فِي دار ابْن الأرْقَم، فَأسْلَمَ، وَكَتَمَ إسْلاَمَهُ خَوْفاً مِن أمِّهِ وَقَوْمِهِ وَكان يَخْتَلِفُ إلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرّاً فَبَصرَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ بِهِ قَوْمَهُ وَأُمَّهُ، فَأَخَذُوه فَحَبَسًوهُ، فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوساً عِنْدَهُم حَتَّى خَرَجَ مُهَاجِراً وَاسْتُشْهِد يَوْمَ أُحُدِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نَمِرَةٌ، كَانُوا إذَا غَطُّوا بِهَا رَأسَهُ خَرَجَت رِجْلاَهُ، وَإذَا غَطُّوا بِهَا رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأسُهُ، وَهِى الْجُبّة الْمَرْقُوعَةُ بِالْفَرْوَةِ. عَلَى مَا قَالَه فِي هَذِه الْحِكَايَةِ، وَاللَّه أعلم. فَأَمَرَهُمّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أَن يغَطُّوا بهَا رَأسَه وَيَجْعَلْوا عَلَى رِجْلَيه من الِإذْخِرِ. وبالله التوفيق.

.مسألة الصيام قبل الاستسقاء:

في الصيام قبل الاستسقاء وسئل مالك: عن الصيام قبل الاستسقاء مما يعمل به، فقال: ما سمعت إنكاراً على من عمله.
قال الإمام القاضي: الصيام قبل الاستسقاء مما لم يأت به أثر عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ولا عن الخلفاء الراشدين المهديين بعده، وإذا هو أمر أحدثه بعض الأمراء استحسنه كثير من العلماء، فعله موسى بن نصير بإفريقية، حين رجع من الأندلس فاستحسنه الخزامي وغيره من علماء المدينة.
وإلى هذا ذهب ابن حبيب فقال: استحب للِإمام أن يأمر الناس قبل بروزه للمصلى بهم أن يصبحوا صياماً يومهم ذلك. ولو أمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، آخرها اليوم الذي فيه يبرزون- كان أحب إلي.
والمعلوم من مذهب مالك إنكارُ هذه الأمور المحدثات كلها، من ذلك أنه كره في سماع ابن القاسم القراءة في المسجد والاجتماع يوم عرفة بعد العصر في المساجد للدعاء والدعاء عند خاتمة القرآن. فيحتمل ما في هذه الرواية من قوله: ما سمعت إنكاراً على مَن عمله، أن يكون انتهى كلامه- أي: مالك- إلى قوله: ما سمعت، أي: ما سمعت أن ذلك يفعل، ويكون إنكاراً على من عمله من قول ابن القاسم. أخبر أن مالكاً أراد بقوله: ما سمعت الِإنكار على، فيكون ذلك مطابقاً لمذهب ابن القاسم، ويحتمل أن يكون الكلام كله من قول مالك فيقتضي جواز ذلك عنده إذ قد نفى أن يكون سمع الإِنكار على من عمله. والأول من التأويلين أولى. واللَّه أعلم.
وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الصيام؛ لتكرَّر المسألة هناك. وبالله التوفيق.

.مسألة اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس:

في اتخاذ الِإبل من مال الله ليحج بها الناس قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب اتخذ إبلًا من مال الله يعطيها الناس، يحجون عليها، فإذا رجعوا ردوها إليه.
قال محمد بن رشد: هذا من النظر الصحيح في مال اللَّه؛ لأن أولى ما صرف فيه مال اللَّه ما يستعان به على أداء فرائض اللَّه، فينبغي للأئمة أن يأنسوا في ذلك بفعله. فقد قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنواجذِ» وقد مضى هذا كله في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم من كتاب الحج لتكرر الحكاية عن عمر بن الخطاب فيه، وباللَّه تعالى التوفيق.

.مسألة ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في زينب زوجته:

ما جاء عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في زينب زوجته قال مالك: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنسائه: «أوَّلُكُنَّ يَلْحَقُنِي أطْوَلُكُنّ بَاعاً»، قال: فكن يتطاولن حتى ينظرن أيهن أطول؟ حتى هلكت زينب، وكانت امرأة صناعاً، عظيمة الصدقة، فلما ماتت عرفن أن رسول اللَّه أراد بذلك الصدقة، وأنها قالت: إِني أرى عمر بن الخطاب سيبعث إلي بكفني وكانت قد أعدت لها كَفَناً، فإن بعث إلي بشيء فتصدقوا به. قال: وكان عمر أول من جعل عليها هذا النعش الذي جعل على النساء سترها به.
قال الِإمام القاضي: ويروى أنه قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أطْوَلُكُن يَداً أسْرَعُكنً لَحَاقاً بِي» والمعنى في ذلك سواء؛ لأنه أراد طول اليد والباع بالصدقة، وذلك من الاستعارات البليغة الحسنة، وفيه فضل الصدقة وعلَم من أعلام النبوءة؛ لأنه أخبر بمن يموت بعده أولاً من نسائه، فكان كما قال، ولم يصرح باسمها لما كان عليه من الخلق الكريمة، مخافة أن يعلمها بما تشفق منه وتكرهه؛ لأن المؤمن يكره الموت لشدته، ويخاف تعجيله، ويود تأخيره رجاءَ الازدياد من الأعمال الصالحات.
وقد «قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأخوين اللذين تأخرت حياة أحدهما، فذكرت فضيلة الأول عند رسول اللَّه، فقال: أَلَمْ يَكُنِ الآخَرُ مُسْلِمَاً؟ فَقَالوا: بَلَى كَان لَا بَأسَ بِهِ. قَالَ: فَمَا يُدْرِيكم مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَته؟ إِنَّمَا مَثَلُ الصّلاَةِ كَمثَل نَهْرٍ عَذْبٍ غَمْرٍ يَقْتَحِمُ فِيه أحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مًرّاتٍ، فَمَا تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِن دَرَنِهِ، فَإِنَّكُم لَا تَدْرُونَ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلاَتُه».
وقد روي عن شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحب لقاء اللَه أحب اللَه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه. قال شريح: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً إن كان ذلك فقد هلكنا، قالت: وما ذلك؟ قلت: من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَه لقاءه»، فبينتَ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن ذلك إنما هو عند المعاينة وحضور الموت، وحين لا تقبل توبة التائب، إن لم يتب قبل ذلك. وزينب هذه بنت جحش تزوجها رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة خمس من الهجرة، وقيل: في سنة ثلاث، وكانت قبله تحت زيد بن حارثة الذي كان تبَنَاهُ رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عز وجل: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]... الآية، وذلك أن المنافقين تكلموا في ذلك لما تَزوجها، فقالوا: تزوجِ حليلة ابنه، وقد كان ينهى عن ذلكـ فأنزل الله هذه الآية، أنزل قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] الآية، وقال: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]. فدعي من يومئذ زيد بن حارثة، وكان يدعى زيد بن محمد، وكانت زينب تفخر على نساء النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بأن اللَّه زوجه إياها، تقول: إِن آباءَكن أنكحوكن، واللَه أنكحني من فوق سبع سماوات. وتوفيت سنة عشرين من خلافة عمر. وهي السنة التي افتتحت فيها مصر. وقيل: توفيت في سنة أحد وعشرين، وهي السنة التي افتتحت فيها الإسكندرية، واللَّه أعلم.

.مسألة الاختيار للذبائِح:

في الاختيار للذبائِح قال مالك: ولقد أخبرني شيخ من بني عبد الأشهل، قال: أدركت الناس يختارون لذبائحهم.
قال محمد بن رشد: وقعت هذه الحكاية في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم من كتاب الصيد والذبائح ساقها فيه على أن الاختيار للمرأة إذا اضطرت إلى ذكاة ذبيحة وعندها نصراني أن تذكيها ولا تكلها إلى النصراني. ووجه اختيار أهل الفضل للذبائح صحيح؛ لأن الفاسق وإن كانت تؤكل ذبيحته، لكن لا ينبغي أن يؤتمن ابتداء على الذبح، مخافة أن يقصر فيما يلزمه فيه، فيكتم ذلك، ولا يعلم به. وذلك مأمون من أهل الفضل.
وقد مضى في الرسم المذكور من الكتاب المذكور بيان القول فيمن تجوز ذبيحته ومن لا تجوز ومن تكره.

.مسألة الشكر على الطعام والشراب:

فيما يلزم من الشكر على الطعام والشراب قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب أتى قُباء فاستسقى فسُقي عسلًا، فقال: من يأخذه يشكر عليه، فقال رجل: أنا، فأعطاه إياه.
قال الِإمام القاضي: معنى قول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: من يأخذه يشكر عليه- أي: من يأخذه يشكر الله تعالى على النعمة به حق شكره. وقد «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه في الطعام الذي صنعه لهم أبو الهيثم بن التَيِّهان والماء الذي استعذبه لهم: لَتُسْألُنّ عَن نَعِيم هذا الْيَوْم»، أي: هل أديتم الواجب عليكم من الشكر للَّه تعالى، وباللَّه التوفيق.

.مسألة في إجابة عبد اللَّه بن الأرقم عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ:

قال مالك: بلغني «أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إليه كتاب، فقال: مَنْ يُجِيبُ عَنِّي؟ فقال ابن الأرقم: أنا. فأجاب عنه، فأتى به النبي فأعجبه وأنفذه» فكان عمر يعجبه ذلك، ويقول: أصاب ما أراد رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزل في قلبه، حتى لما ولي استعمله على بيت المال. فقال عمر: ما رأيت أحداً أخشَى للَّه منه، حاشَى رسول اللَّه.
قال الإِمام القاضي: عبد اللَّه بن الأرقم هذا القرشي الزهري أسلم عام الفتح، وكتب للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثم لأبي بكر، واستكتبَه أيضا عمر، واستعمله على بيت المال وعُثمان بعده أيضاً سنين حتى استعفاه من ذلك فأعفاه. وروي أنه أعطاه ثلاثمائة درهم، فأبى أن يأخذها. وقال: إنما عملت للًه، وإنما أجري على اللَّه.
وروى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن عُثمان أجاز عبد الله بن الأرقم، وكان له على بيت المال بثلاثين ألفاً، فأبى أن يقبلها. وروي: أنه بلغ من أمانته عند رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ويأمره أن يطبعه ويختمه من غير أن يقرأه النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لأمانته عنده.

.مسألة أشد البَلاءِ مَا هو:

في أشد البَلاءِ مَا هو؟ قال مالك: كان يقال: من أشد البلاء الِإملاء في المعاصي.
قال محمد بن رشد: هذا بيِّن شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] فلا شيء أشدُ على العبد من الازدياد في الِإثم الموجب لسخط الرب؛ لأن العبد إذا ابتلي في ماله أو جسمه، إِن رضي بقدر اللَّه وصبر واحتسب- أُجِرَ، وإن سخط ولم يصبر ولا احتسب ثم مع ذهاب ماله وفقدان صحته، لم يتكرر عليه الِإثم كما يتكرر على من أملي له في المعاصي، وباللَّه التوفيق.

.مسألة إقادة الِإمام من نفسه:

في إقادة الِإمام من نفسه قال مالك: بلغني أن أبا بكر لما تولى أمر الناس ضرب رجلًا ثم ندم، فقال: ما لي وما لهذا؟ لأردنها عليه، فلما سمعت عائشة أرسلت إلى عمر، فجاءَه، فقال: ما لَكَ؟ قال: قد ضربتُ رجلًا وقد واللَّه أعلم؛ لأن اللَّه قال فيها: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، كنت مُعافى من هذا أن أضرب أحداً أو أشتمه. فقال له عمر: كذلك الإمام. قال: ومَا المَخرج؟ قال: تأتي الرجل فتسأله أن يجعلك في حل، فأتاه فأحله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا أنه ضربه أدباً بالاجتهاد في غير حد، فخشي أن يكون قد أخطأ في الاجتهاد، فتجاوز في الضرب، وضربه فيما كان يجب التجاوز فيه، وترك الأدب بالضرب. وهذا على طريق التواضع والورع والخوف للَّه والتنحي من المتشابه، لا على سبيل الوجوب؛ لأن للإمام أن يؤدب الجناة بالضرب، كما يؤدب الرجل عبده وأمته، وكما يؤدب الرجل زوجته بالضرب، فلا يكون عليه في ذلك حرج، لقوله عز وجل: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] فالِإمام مأجور على اجتهاده وإن أخطأ فيه. قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِن اجْتهَدَ الْحَاكِمْ فَأخطَأ، فَلَهُ أجْرٌ، وَإِن أجْتَهَدَ فَأصابَ فَلَهُ أجْرَانِ». وباللَّه التوفيق.